عيون على الوطن
بقلم : يوسف ابداح
أربعة وأربعون ربيعاَ قضيتها في سلك التربية والتعليم في المملكة العربية السعودية الشقيقة , كنت فيها عظيم الفخر والاعتزاز بتقدّم التعليم وتميّزه في وطني , بمدارسه وكلياته وجامعاته , ومستوى الأداء لمعلميه الخيّرين , الأمر الذي شجّعني بتنظيم وفدٍ تربوي وتعليمي لتبادل الخبرات مع إدارات التربية والتعليم في أرض الوطن .
لقد اخترت عروس الشمال اربد , وإدارة التربية والتعليم الأولى ومدارسها , وكانت ثانوية اربد للبنين – أقدم مدرسة في الأردن – المحطة الأولى للزيارة , فقد احتضنتني وزملائي عام 1962 م , فبادلناها الحب والعشق حتى اليوم !
أُعجب الوفد إعجاباً عظيماً بمستوى الإدارة وأداء المعلمين , وانتظام الطلاب في مدارسهم وفصولهم , وجودة تحصيلهم .
كاد رأسي يطاول عنان السماء فخراً واعتزازاً بعراقة مدارسنا , والإنجازات العظيمة التي حققتْها بفضل الله ثم جهود المخلصين من معلميها …
…. وبدأ العام الدراسي الجديد 2018 – 2019 م , وتوجّه أبناؤنا لمدارسهم وكلهم شوقٌ وطموح , همّة وعزيمة , بينما ترقبهم عيون الآباء, والحب الكبير لهم ملء قلوبهم , والواحد منهم يحوطهم بسورة الرحمن فتفيض بالدمع عيونهم …..
……. لقد فوجئتُ اليوم بما لم يكن في الحسبان !
فوضى عارمة , تدمير وتكسير , قلع للورد وأشتال الزينة , العبث بمقتنيات المدارس وأثاثها , الاعتداء على سيارات المعلمين , حتى الجامعات لم تسلم من تلك الفوضى المؤسفة !
كم هزّتني تلك المشاهد وأنا أقارن الأمس باليوم !
لقد طفحت بالدمع عيوني وأنا أرى هذا التحوّل الخطير في المسيرة التعليمية التي كنا نباهي بها الوطن العربي والعالم كله .
لقد وضع الكثير منا أيديهم على الجرح النازف ……
أما أنا , فلن أسمح لعيوني أن تخونني بدمعها ثانية , فموقعي التربوي , وانتمائي العظيم لوطني , يدفعاني إلى الإشارة لتلك الظاهرة الدخيلة والمؤسفة , باذلاً قصارى جهدي ما استطعتُ إلى ذلك سبيلاً .
إنني لن أعفي وزارة التربية والتعليم من المسؤولية المُلقاة على عاتقها , فقوانينها بحق المعلمين كانت مُجحفة لزمن غير قصير , بحجّة تطبيق وسائل التربية الحديثة المستوردة , وحقوق الطفل وحقوق الإنسان المزعومين , والتي لم تكن من مقاسنا يوماً ’ متناسين عاداتنا وتقاليدنا العربية الأصيلة , متجاوزين أصول التربية الصحيحة التي حثّ عليها ديننا الحنيف , فجرّدت مدير المدرسة من صلاحياته التربوية , وزُجّ بالمعلم في مراكز نظَارات التوقيف داخل أقفاص لا تليق بصانع رجال أمام طلابه ومجتمعه .
فأنّى يستعيد المعلم هيبته واحترام طلابه له ؟
وكيف سيكون أداءَه وعطاءَه لطلابه ؟
وفي الوقت نفسه , فإنني لن أتغاضى عن مسؤولية المعلم عن السلبيات والتجاوزات التي شاهدناها ونشاهدها في مدارسنا , لقد كنا نتوق لرؤية المعلم القدوة والنموذج …..
القدوة في قوله وتصرفاته , في سلوكه وعطائه , في حضوره وانصرافه , في جدّه بعمله وانتمائه لوطنه , بل وفي هيئته وهندامه …
أيُعقل أن يدخّن المعلم في ممرّ المدرسة وساحاتها ثم يطلب من طلابه الإقلاع عن التدخين ؟
أيُعقل أن يتأخر المعلم عن حضور الطابور الصباحي وعن دخول الحصة , ثم يسأل طلابه عن أسباب تأخرهم ويهددهم على ذلك ؟
إن لسان حالهم يترجم مقولة أبي الأسود الدؤلي حين قال :
يا أيها الرجل المعلم غيره هلّا لنفسك كان ذا التعليمُ
ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها فإذا انتهيت عنه فأنت حليمُ
فهناك تُعذرُ إنْ وعظتَ ويُقتدى بالقول منك ويحصلُ التسليمُ
لا تنهَ عنْ خُلُق وتأتيَ مثله عار عليك إذا فعلتَ عظيمُ
إنّ العمليّة التعليمية تقوم على أركان ثلاثة :
إدارةٌ ناجحة , ومعلمٌ قدير , وطالب مُجدّ ….
إنهم يمثلون جميعاً سلسلة واحدة متكاملة الحلقات , لا تستغني إحداها عن أختها , وإلا فقدتْ تسميتها بالسلسلة .
فلا تكون الإدارة ناجحة دون خبرة ودراية وحُسن تصرُّف ,وتعاون مع الركنين الآخريْن , فإن اليد الواحدة لا تُجيد التصفيق ..
ولا يكون التعليم ناجحاً دون معلم قدير , يُعدّ دروسه , ويحمل هموم أبنائه الطلاب , فيعطيهم من علمه
الغزبر ,ويُسهّل عليهم الصعب من المسائل , ويكون لهم أخاً وأباً ومعلماً , فيزدادون له حباً , وإليه احتراماً .
أما الطالب , فإن أداءَه مُرتبط بحسن إعداده وتربيته المنزلية , وتوجيههم السليم له , ومعرفة مَن يُخالل ,
والتعاون المستمر مع إدارة المدرسة والمعلمين , ومتابعة سلوكه أولاً , ثم تحصيله العلمي ثانياً , ليتمكن الجميع من الوصول إلى الأهداف المنشودة ….
إنّ المدرسة لن تعدم وجود بعض الطلاب المشاغبين , الذين تستهويهم الفوضى والخروج عن النظام واللوائح المدرسيّة , فتراهم متمردين لا يحفلون بقانون أو نظام , ويرمون بالقوانين عرض الحائط .
وهنا لي مع إدارة المدرسة حديث قد يطول ….
ما الحلول التي وُضعت للتعامل مع هذه النماذج من الطلاب ؟
هل وقفت إدارة المدرسة على الأسباب ؟
هل استدعت أولياء الأمور وأطلعتهم على سلوك أبنائهم , ودوّنت ذلك في محاضرها الخاصة , لمواجهة أولياء الأمور بذلك عند اللزوم ؟
هل حققت الإدارة بعض ما كانت تأمله من تغيير , فهيأت الدواءَ بعد أنْ عرفتْ الداء ؟
هل ترى إدارة المدرسة احتساب درجات للسلوك والمواظبة تكون فاعلة عند القبول في الكليات الجامعية والعسكرية وطلبات التوظيف ؟
إنّ إدارة المدرسة معنيّة بعقد الندوات والمحاضرات الإرشادية , يُدعى لها رجال الفكر وعلم الاجتماع والصحافة والإعلام , والمعنيّون في أجهزة الدولة للوقوف على مشاكل الطلاب , والمخاطر المترتبة على جنوحهم , فتتفاقم عندها المخاطر , وتصعب الحلول .
إن هذه النماذج من الطلاب , لَيشكلون خطراً على زملائهم ومجتمعهم , مما يوجب ضرورة التعاون مع الحاكم الإداري للوقوف على تلك المشكلات , حتى لا نجد في شوارعنا قُطّاع طرق ودُعاة فوضى .
إن الشباب هم الحلقة الذهبية في عِقد أمتهم ووطنهم , فعليهم تُعقد الآمال في النهضة والبناء , والذود عن الحياض , والدفاع عن مكتسبات الوطن .
ومن هذا المنطلق , فإن الدول والحكومات تعنى بشبابها , وتعطيهم جُلّ اهتمامها ورعايتها , فهم أساس كلّ تقدم وإبداع .
إن مدارسنا مناراتٌ يجب المحافظة عليها , وأبناؤنا هم الأمل الذي يرقبه الوطن وتحتاجهم الأمة , فهم جديرون بالاهتمام والرعاية والتوجيه , فالقرية التي لا تحتضن شبابها , سيحرقونها من أجل أن يستشعروا الدفء .
إننا وإن أخفقنا في البدايات , فعلينا أن نحذر المخاطر في النهايات , فالعبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات, فقد قال صلّى الله عليه وسلم : ( لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين . )
حمى الله وطننا وأبناءَنا , وسدّد خُطى المخلصين من معلمينا , والقائمين على مسيرة التعليم في بلادنا .
( ربّنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا , وهبْ لنا من لدُنك رحمة , إنك أنت الوهّاب . )
Leave A Comment