حوار مع مدخن
بقلم : يوسف ابداح
كان في السبعين من عُمره , تلُفّ وجْهَهُ التجاعيد , يتوكأُ على عصاه , وَقدْ دَقّ عظمُه , وشَحَبَ وجهُهُ ,
واحدَوْدَبَ ظهرُه , فَبَدا وقدْ جاوزَ ثمانية العقود أو ما يزيد .
إنهُ العم أبو سالم , كما كُنا نُسمّيهِ في حيّنا , حيثُ كانتْ تتهلّلُ قسماتُهُ بُشرىً وحُبُوراً عندما يُنادَى بتلك الكُنية .
ناديتُهُ – وقد سقطتْ ( صُرّةٌ ) من جيبه ظننتُها تحوي كُل ما كان يملكُهُ من دراهم معدودة – :
عم أبو سالم : لقد سقطتْ مِحْفَظَتُك .
أدارَ ظهرَه , وَجَذَبَ الصُرّة بِمِحْجَنِهِ التي كان يتوكأُ عليها , ثمّ قال مُخاطِباً الصُرة في يده :
اَهٍ يا صديقي … ! لِمَ تَفِرّ مني ؟
ألسْتُ صديقَك ؟
أتهونُ عليكَ عِشْرةَ العُمْرِ قضيناها معاً ؟
قلتُ له : مَعَ من تتحدّثُ يا عمْ ؟
قال : معَ صديقي الوفيّ .
قُلت : ولكنني لا أرى أحداً تُحدّثُه !
ابتسم العم أبو سالم , وقد فتح الصُرّةَ وقال: هذا تِبْغٌ أصنعُ منه سَجائرِي , فأنا لا أستَطِيبُ السجائرَ المحفوظةَ في عُلَبِ الأسواق .
قُلتُ لهُ مُداعِباً : أما هذهِ فأطيبُ وأكثرُ فائدةً ! أليسَ كذلك ؟
قال : اسمعْ يا ولدي . إنكَ إنْ سِرتَ معَ صديقٍ في رِحلةٍ ليومٍ أو يومين , فإنهُ سَيعِزّ عليكَ فِراقُه, فكيف بي وقدْ
صادقْتُ ما في الصُرّة لما يزيدُ عن ستينَ عاماً !! .
قلتُ له : أتُريدُ أنْ تُحدّثنَي عن وَفائِك ؟
قال : نعم . إنّ اللبيبَ بالإشارةِ يَـفهمُ .
قلت : يا عَمْ , أسألك بِصراحة , وألتمِسُ مِنْكَ العُذْرَ إنْ تجاوزْتُ قَدْري في السؤال .
قاطَعَني العم أبو سالم وأنا أحدّثُهُ وقال : سَلْ ما بدا لك , فأنتَ بِمَكانةِ ولدي سالم .
قلت : هلْ لَكَ أنْ تُخبرَني عن المُبَرّرِ في تدخينك ؟
قال : ألا تُلاحِظُ الظُروفَ العالميّةَ والاقتصاديّةَ التي تُهدّدُنا , والبطالةُ التي تُطاردُنا ؟
ألا تُلاحِظُ أوضاعَنا الاجتماعيّةَ والمحليّة ؟ فكيف تَسْتغربُ عليّ التدخين ؟؟ .
قلت: هل يَرتبِطُ تَدْخينُك بالعَوْلمةِ الدّوليةِ وتراجُعِ الاقتصادِ العالميّ ؟
وهَلْ سَتنتظِرُ حتّى تُحَلّ تلكَ القضايا ؟؟
أجابَ مُتظاهِراً بِحِرْصِهِ عل تقديمِ الهمومِ الجماعيةِ على هُمومِهِ الفـَرديّة :
أرجو أن تُحَلّ كُلّ تلك القضايا , فهي أهمّ من تدخيني .
قُلت : ولكنّ صحّتَكَ غاليةٌ علينا يا عَمْ !
قال : شكراً لكَ يا ولدي .
قُلت : هلْ لكَ أنْ تُخبِرَني عن عددِ السجايرِ التي تُدَخّنها في اليومِ يا عمّاه ؟
هزّ العم أبو سالم كتفيهِ وقال : لا أدري ….. ولكنهُ يُقارِبُ ضِعْفَ ما في هذهِ الصُرّة .
قدّرتُ ما في صُرّتِه , فقد يتجاوزُ عُلبتين مِن السجائر .
قُلتُ له :إنّ هذا كثيرٌ وضارٌ بِصِحتِك !!
قال : ….. ولكنّ الأعمارَ بيدِ الله .
قلت : نَعَم . إنّ الأعمارَ بيدِ الله , ونحنُ نؤمِنُ باللهِ وقَدَرِه , ولكننا مُطالبون بالأخذِ بالأسباب ! .
قال : إنني أقتصدُ في التدخين ِ هذه الأيام , بحيث لا أتجاوزُ الصُرّةَ الواحدة َ .
قُلْتُ له : بِدايةٌ جيّدة , مع أنّ ما في الصُرّةِ جِدُ كثير .
ثُمّ أضفتُ قائلاً : أراك تسيرُ راجِلاً , فإلى أين أنت ذاهِبٌ ؟
قال : إلى الطبيب .
قُلتُ : قد يُعاتبُكَ كثيراً لإفراطكَ في التدخين , فهو سَبَبُ مرضِك .
احتجّ العم أبو سالم على سؤالي وتبرير مرضِهِ فقال :
لا … لا , إنني أشعرُ بالحُمّى فقط , ولا علاقةَ للحُمّى بالتدخين .
قُلْتُ : أرجو ذلك , ولكن لماذا تذهبُ إلى الطبيبِ ماشِياً ؟؟
قال : على المرْءِ أنْ يلجأَ إلى الاقتصادِ والتوفيرِ في هذهِ الأيام , ألَمْ أحَدّثْكَ عن سوءِ الأحوالِ الاقتصاديّة ؟
قُلْت : سبحان الله !! تُريد التوفيرَ في أجرةِ الطريقِ ولا تُريدُ التوفيرَ في ثمن التبغ والسجائر !!.
هذهِ مُعادلةٌ خاطئةٌ يا عَم .
قال : الرازِقُ هُوَ الله .
لَمْ أرِدْ أنْ أناقِشَهُ ثانيةً بضرورةِ الأخذِ بالأسباب , حتى لا يقطعَ عليّ الحوار , وَيُنهي معي الحديث .
قُلتُ : يا عَمْ : هلْ تطلُبُ الخُبْزَ أو الطعامَ مِنْ أحدٍ عندَ نَفاذِ ما عِندكَ منهما وقد أصابك الجوع ؟؟
قال : مَعاذَ الله !! .
إنّ عِزّةَ نفسي وكرامتي تأبيانِ عليّ ذلكَ حتى لو كُنتُ صائماً . وأخذ يُحدّثني عن حسبه ونسبه وعن
شجرةِ العائلةِ العتيد ة .
قُلت : وكيف تفعلُ لو نفذتْ سجائرُك ؟ هلْ ستطلبُها مِنْ أحد ؟
قال : نَعَم , فالسجائرُ تخْتَلِفُ عنْ كُلّ ما ذكرْت .
إنّها أقلّ ثمناً من الطعام , كما أنني لا أقوى على الاستغناءِ عنها. قلت : أتطلبُ السجائرَ ولا تطلبُ الطعام ؟ وَهلْ أصبحتْ السجائرُ أولى من الطعام ؟
فبالطعامِ يقوى جِسْمُك , وبالسجائرِ يَتلوّى ألَماً بَطنُك .
أينَ عِزّةُ النفسِ والكرامة التي تَحدّثتَ عنها ؟ أم تَنازَلْتَ عنْ عراقةِ الحَسَبِ والنّسَب ؟
قال : كُلُّ المدخنين يفعلون ذلك !
قُلت : ولماذا ترضى أنْ تكونَ من الكُل ؟
لماذا لا تُحاولُ الإقلاعَ عن التدخين وتدعو الاَخَرين إلى تَرْكِه , فيكتُبُ اللهُ لكَ الأجرَ والثواب ؟
قال : أرجو ذلك .
سألتُهُ : هلْ يدخّنُ أحَدٌ من أبنائك ؟
أجابني قائلاً : بلْ كُلّهُمْ يُدَخّنُون !
قُلْتُ : هَداهُم الله , ولماذا لمْ تنْصَحْهُم بِتَركِه ؟؟
أجابَ مُرَدّداً قولَ الشاعر :
يا ذا المُعَلّمُ غَيْــــرَهُ : هَلاّ كانَ لِنَفْسِكَ ذا التعْليمـا ؟
إنّ حُجّتي في إقناعِهِم سَتكونُ واهِيةً ضعيفة , فلنْ أستطيعَ إقناعَهُم .
قُلْتُ له : إنكم معْشرَ الكبارِ قُدْوَتُنا , وأنتم خميرتُنا التي نفخَرُ بِحِكْمَتِها , ونعتَزُّ بِرَأيِها وَعُمْقِ
تَجْرُبَتِها , فَبِتوجيهاتِكُم نعمل , وعنْ نصائِحِكُم نبحث .
فهل لك أنْ تُخبرَني عن فوائدِ التدخين ؟
أجابني – وقد اغروْرَقَتْ عيناهُ بالدموعِ التي ما استطاعَ حَبْسَها – فقال :
كفى يا ولدي ….. كفى …… ثُمّ أجهشَ بالبُكاء وهو يقول :
أُشْهِدُ اللهَ ثُمّ أُشْهِدُك , أنني سأَتْرُكُهُ ولنْ أعودَ لهُ ثانيةً .
أخرجَ الصُرّةَ مِنْ جَيْبِهِ , وألقى بها بعيدا .
شكرته وشاطرته دموع الفرح , وتمنيت له ولجميع المدخنين الصحة والعزيمة والغلبة على هوى النفس .
فرحت بحوار العم أبو سالم , والذي كان صادقاً مع نفسه وفي حواره معي .
لقد ترجمت الدموع صدق عزيمته وقوة إرادته , متنصلاً من صداقةٍ خادعةٍ دامت ستين شكرتُهُ وشاطرتُهُ دموعَ الفَرح , وتمنيتُ لهُ ولِجميعِ المُدَخّنين الصحةَ والعزيمةَ والغلبةَ على هوى النفس .
فَرِحْتُ بِحِوارِ العم أبي سالم , والذي كان صادقاً معَ نَفْسِهِ وفي حِوارِه معي .
لقدْ تَرْجمت الدُّموعُ صِدْقَ عَزيمَتِهِ وقُوّةَ إرادَتِهِ , مُتَنصّلاً مِنْ صَداقَةٍ خادِعَـــةٍ
دامتْ ستين عاماً .
Leave A Comment