الأرض الطيبة

بقلم: يوسف ابداح 

في يومٍ من أيام الصيف القائظ  , جلس الشيخ سالم أمام غرفته المُطلّة على طُرقات القرية ,  وأشجار السرو والصنوبر تحيطُ

منزله الصغير ,  فتهتـزّ أوراقُها مع كُلّ نسمةٍ  , وتتراقصُ أغصانها مع كُلّ ريح , بينما تُغطي سيقانُ القمحِ الذهبيّة  الأرض , فتتماوج سنابلُها كموجِ البحرِ تضربه الرياح .

………   ويتنهـّدُ الشيخ سالم ,  فتبدو على وجهِهِ تجاعيدُ تَحمِلُ هُموماً كثيرةً وتجاربَ طويلة علّمتهُ إيّاها السِنون  .

سمع الشيخ في البيت  حركةً غيرَ مألوفة , فسأل :  ما الأمر ؟

أفادته زوجتـُهُ  أنّ زوجةَ ولدهِ قد جاءها المَخاضُ  وهي على حالٍ من الصحّةِ لا تُطيقُ معه اَلام الوِلادة .  لقد كان الأب مُشْفِقـاً

على زوجة ابنه الذي لاقى وجه ربّه وهو يُؤدي واجبه العسكري ,  مُشتاقاً إلى حفيدٍ يرى فيه استمرارَ الحياة , ويحمِلُ اسم

أبيه الذي استلم عنه قبل أيامٍ وِسامَ الشجاعة  .

ما خيّبَ اللهُ أُمنيةَ المُتمني  , فقد هَرَعَتْ إحدى الجارات تزُفُّ للشيخ بُشرى غُلام حليمٍ أسمَوْه ( محمود ).  اغْرَوْرَقَتْ عَيـــْنا الجدّ بدموعِ الفرحِ وهو يرى في الحفيدِ الجديدِ صورةً لابنه الشهيد   .

كبُر محمود …..  ودخل المدرسةَ معَ أقرانه , ينهلون من مَعينِ المعرفةِ الذي لا ينْضَب ,  لِيرسموا خُطواتِهم الواسعةَفي بنـاءِ

مُستقبل  أفضلَ لِقر يتهم الوادعةِ في سفحِ الجبل ,  والتي تحتضنُها أشجارُ السرْوِ والصَنَوْبرِ في رِفقٍ وحنان  .

وينجحُ الأحفادُ ليواصلوا دراستَهم الجامعيّةَ في تخصصاتٍ مُتعدّدة ,  ويكبر الشيوخ الذين لا تُفارق عيونُهم تلك الأرض الوفيـة

التي جادت بوافرِ عطائِها وعظيمِ خيرِها دون ضَجَرٍ ولا مَلَل .  اَمالُهم كبيرة , وَهِمَمُهُم عالية .

لكنّ تلك الطموحاتِ تظلّ حبيسة ,  والهِممُ العاليةُ سجينة !! فالوَهَنُ قد بلغ من الشيوخ مَبْلغَه ,  والأحفادُ والأبناءُ قد هَــجروا

القريةَواتجهوا إلى المدينةِ بشوارعها المُضاءةِ وأسواقها المُكتظةِ وحدائقِها الواسعة , وكان الشيوخُ  في عِتابٍ دائم للشبـاب

لِهجْرِهم القريةَ التي كادت أنْ تقتصرَ على الشيوخِ والنساءِ والأطفال  .

الشيوخ : الأرضُ كنزٌ دائمُ العطاء …..   منها خُلِقْنا …… وإليها سَنعود ……   ومنها سَنُبْعَث .

الشباب   :  ولكنّ القريةَ تفتقِرُ إلى الكهرباءِ  !!

الشيوخ   :  أوُلِدْنا على ضوءِ الكهرباءِ أم على ضوءِ القمر  ؟؟ عُودوا يا أبنائي إلى صفاءِ القريةِ وَوَداعَتِها ,  عُودوا إلى

الأرضِ التي أحبتكُم وأكْرَمَتْكُم فجحدتُم  خيرَها .

الشباب  : لقد أجْدبَت الأرض , فلمْ تعُدْ تَدِرّ كما كانت  !

الشيوخ  : أخصبتْ بِجِدّنا وَعَرقِنا ,  وأجدَبتْ بِكَسلِكم .

الشباب  : كُلّ الكبارِ يتكلّمون عن جِدّهم وماضيهِم  , وما الذي تريدونه منا بعد أنْ ذوى كُلّ أخضر في القرية  ؟

الشيوخ  : نُريد سواعِدَكم المفتولة , ونُعطيكُكم  تجاربَ طويلة علّمتْنا إياها السِنون .

………..   ويعودُ محمودٌ ورفاقُهُ  مُؤهلين بالتخصصاتِ العالية ,  فيُذْهَلون لِما صارتْ إليهِ حالُ قريتِهم  .

سألوا عن أترابِهم فأجابهم الشيوخ :

لا تسألونا عنهم ,  سَلوا المدينة فهم اليوم أبناؤُها  !

ويلحق محمود ورفاقُه بهم ,  بحثوا عنهم في كُلّ شارعٍ وطريقٍ من طُرُقاتِ  المدينة ليعودَ الجميعُ إلى قريتهِم المُتَلهّفـة

لِلقائهِم ,  وصلوها .. فخضّبوا  وَجَناتِهم بِترابها الخّيّر المِعْطاء  .

وعهداً قطعوه على أنفُسِهم ,  أنْ يعملوا بِإخلاصٍ في خدمةِ هذه الأرضِ الطيّبة ,  لِتَنْضمّ العقولُ المُفكّرةُ والسواعدُ المفتولةُ

إلى حِكمةِ الشيوخِ وتجارُبِهم الطويلة.

استقبلتهم القريةُ بالزغاريد  والأهازيج , واستبشرتْ بِمقْدَمهِم عهدَخيرٍ وأمنٍ ورخاء  .

نهضَ من بَقِي من الشيوخِ حياً ,  ودُموعُ الفرحِ مِلءُ عيونِهِم وهم  يُردّدون :

مَرْحى بِهِم  ….. مَرْحى بِهِم :

اليومَ عاد  لنا الشباب   .

اليوم عاد  لنا الشباب   .