بقلم : يوسف فايز ابداح .
ابنُ زُريق البغدادي هو أَبو الحسن علي أبو عبدالله بن زُريق , شاعرٌ عباسيّ من مواليد حيّ الكَرخ في بغداد .
تزوّج ابنة عمّه التي أَحبها حُباً عظيمًا , فبادلتْه حُبًا بحُب , ووفاءً بوفاء .
أَخلصتْ له , وأَخلص لها إِخلاصًا كان مَضرب المثَل فيه , فمن أَجلها , وتحقيق السعادة لها , كان مُستعدًا للهجرة والسّفر والاغتراب .
أَصابته الفاقة ُوضِيق العيش , فدفعَه طموحه العظيم في كسب الرزق الوفير لإِضفاءِ السعادة والرّخاءِ على حياته
وزوجته , للرغبة في الرّحيل والبُعد عن موطنه في بغداد , والتوجّه إِلى الأندلس , ليمدح أَميرها عبدالرحمن الأَندلسيّ بقصيدةٍ بليغة ينال بها عَطاءَه الجزيل .
تشبّثتْ به زوجته للعدول عن السفر والرّحيل , وأَنها قنوعةٌ راضيةٌ بالقليل , ولم يكن المالُ عندها شرطًا من شروط السعادة , فهي لا تقوى على فراق زوجها ومالك قلبها , ولا تودُّ له مواجهة الصِّعاب ومرارة الغُربة , فتوسّلتْ للآخرين مساعدتها لإِقناعه في العدول عن السّفر والرّحيل , فكانت محاولاتهم صَدىً لأَصواتٍ دون بيان .
غادر ابنُ زُريق بغداد تاركًا في الكرخ زوجته , ولكنّ قلبه ظلَّ مُعلَّقًا ببغداد , ولسان حاله يقول :
وما أَحببْتُ أَرضَكمُ ولكن أُقبّلُ إِثْرَ مَنْ وَطِىءَ التُّرابا
وصل ابنُ زُريق الأَندلس , وتوجّه إِلى الأَمير عبدالرحمن الأَندلسيّ , فمدحه بقصيدةٍ بليغة نالتْ إِعجاب الأَمير
الذي تجاهل استحسانه لها , ليختبر عِفَّة الشاعر وقناعته , أَو طمعه وجشعه , فلم يُعطه من المال إِلا القليل .
توجّه ابن زُريق إِلى غرفته التي كان يسكنها في الخان , وقد شعر في الفشل وفقدان الأَمل , وعدم تحقيق طموحاته
العريضة التي جاءَ من أَجلها , فعاش صراعًا داخليًا صعبًا ممزوجًا بالندم على القدوم , وعدم سماع نصيحة زوجته وجيرانه وعظيم توسُّلاتهم وإِلحاحهم , وتذكّر ما اقترفه في حقّ زوجته بالبُعد عنها , وما تَحمَّله من مصاعب
وشدائد , فأَصابه الهمُّ والغمُّ وعَناءَ التفكير .
أَرسل الأميرُ عبدالرحمن الأَندلسيّ يطلبه ليجزل له العَطاء , بحثوا عنه , فوجدوه في غرفته وقد توفّى , ووجدوا
عند رأسه رُقعةً كَتب عليها هذه الأَبيات التي يُناجي فيها زوجته , (وقيل نفسه) , بعاطفةٍ صادقةٍ مِلؤُها الحزن والندم
والشكوى , تزدحمُ فيها الأُمنياتُ التي يَصعبُ تحقيقها , وهيهاتَ للماضي أَنْ يعود !
لا تَعْذِليهِ فإِنَّ العَذْلَ يُولِعُهُ قدْ قُلْتِ حقًّا لكنْ ليس يسمعُهُ
جاوزتِ في نُصحهِ حَدّاً أَضرَّ به مِنْ حيثُ قَدّرْتِ أَنَّ النُّصحَ ينفعُهُ
فاستعملي الرّفقَ في تأْنيبِه بَدَلاً مِنْ عَذْلهِ فهو مُضْنى القلبِ مُوجَعُه
قد كان مُضطّلعًا بالخَطْبِ يَحْمِلُهُ فَضُيّقتْ بخُطوبِ الدّهرِ أَضلعُهُ
يَكفيهِ مِنْ لَوْعةِ التشتُّتِ أَنَّ لهُ مِن النَّوى كُلّ يومٍ ما يُرَوّعُهُ
ما آبَ مِنْ سَفَرٍ إِلا وأَزعَجَهُ إِلى سَفَرٍ بالعزْمِ يُزْمِعُهُ
كأَنما هو في حِلٍّ ومُرتَحَلٍ مُوَكَّلٌ بفَضاءِ اللهِ يَذْرَعُهُ
إِذا الزّمانُ أَراهُ في الرّحيلِ غِنىً ولو إِلى السّندِ أَضحى وهوَ يُزمِعُهُ
تَأْبى المَطامعُ إِلا أَنْ تُجَشّمَهُ للرزقِ كَدًّا وكمْ مِمّنْ يُودّعُه
وما مُجاهَدةُ الإنسانِ تُوصِلُهُ رزقًا ولا دعةُ الإنسانِ تقْطَعُهُ
قدْ وزّعَ اللهُ بينَ الخَلْقِ رِزقَهمُ لَم يَخلق اللهُ مِنْ خَلْقٍ يُضيّعُهُ
لكنّهم كُلّفوا حِرْصًا فلستَ تَرى مُسْتَرْزِقًا وَسِوى الغاياتِ تُقنِعُهُ
والحِرصُ في الرّزقِ والأَرزاقُ قدْ قُسّمتْ بغيٍّ أَلا إِنَّ بَغْيَ المرءِ يَصرَعُهُ
والدهرُ يُعطي الفتى من حيثُ يَمْنَعُهُ إِرْثًا ويَمنَعُهُ مِنْ حيثُ يُطعِمُهُ
أَستودعُ اللهَ في بغدادَ لي قَمَرًا بالكرخِ مِنْ فَلَكِ الأَزرارِ مَطْلَعُهُ
ودّعتُهُ وبودّي لو يُودّعُني صَفْوُ الحياةِ وأَني لا أُودّعُهُ
وكم تشَبّثَ بي يومَ الرّحيلِ ضُحىً وأَدمُعي مُستَهِلّاتٌ وأَدْمُعُهُ !
لا أَكذبُ اللهَ ثوبُ الصّبرِ مُنخَرِقٌ عَنّي بِفُرْقَتِهِ لكنْ أُرَقّعُهُ
إني أُوسّعُ عُذري في جِنايته بالبيْنِ عنهُ وجُرحي لا يُوسّعُهُ
رُزِقْتُ مُلكًا فلمْ أُحسِنْ سياسَتَهُ وكلُّ مَنْ لا يسوسُ المُلْكَ يَخْلَعُهُ
ومَنْ غَدا لابِسًا ثوبَ النعيمِ بِلا شُكرٍ عليهِ فإِنَّ اللهَ يَنزَعُهُ
اعتضْتُ مِنْ وجْهِ خِلّي بعدَ فُرْقَتِهِ كأْساً أُجرّعُ منها ما أُجرَّعُهُ
كم قائلٍ لي ذُقتَ البَيْنَ قُلتُ لهُ الذنبُ واللهِ ذَنبي لستُ أَدفعُهُ
هلّا أَقمْتُ فكانَ الرُّشدُ أَجمَعُهُ لو أَنني يومَ بانَ الرُّشدُ أَتْبَعُهُ
إِني لَأَقطعُ أَيامي وأُنفقُها بِحسْرَةٍ منهُ في قلبي تُقطّعُهُ
بِمَنْ إِذا هَجَعَ النُّوّامُ بِتُّ لهُ بِلوْعةٍ مِنهُ لَيلي لستُ أَهجَعُهُ
لا يَطمئنُّ لِجنبي مَضجَعٌ وكَذا لا يَطمئنُّ لهُ مُذْ بِنْتُ مَضْجَعُهُ
ما كُنتُ أَحسبُ أَنَّ الدّهرَ يَفْجَعُني به ولا أَنَّ بِيَ الأيامَ تَفْجَعُهُ
حتى جرى البّيْنُ فيما بينَنا بيدٍ عَسراءَ تَمنعُني حَظّي وتمنَعُهُ
قد كنتُ مِنْ رَيْبِ دَهري جازِعًا فَرِقًا فلم أُوقَ الذي قد كنتُ أَجْزَعُهُ
باللهِ يا مَنزِلَ العيْشِ الذي دَرَستْ آثارُهُ وعَفَتْ مُذْ بِنْتُ أَربُعُهُ
هل الزمانُ مُعيدٌ فيكَ لذّتَنا أَم الليالي التي أَمضتْهُ تُرْجِعُهُ
في ذمّةِ اللهِ مَنْ أَصبحْتَ منزلَهُ وجادَ غيثٌ على مَغناكَ يُمْرِعُهُ
مَنْ عِندهُ لي عهدٌ لا يُضيّعُهُ كما لهُ عَهدُ صدقٍ لا أُضيّعُهُ
ومَنْ يُصَدّعُ قلبي ذِكْرَهُ وإِذا جَرى على قلبِهِ ذِكري يُصَدّعُهُ
لَأَصْبِرَنَّ على دَهرٍ لا يُمَتّعُني بهِ ولا بِيَ في حالٍ يُمتّعُهُ
عِلمًا بأَنَّ اصطباري مُعْقِبٌ فَرَحًا فَأَضْيَقُ الأَمرِ إِن فكّرت أَوسَعُهُ
عسى الليالي التي أَضنتْ بِفُرقَتِنا جسمي , ستجمعني يومًا وتَجْمَعُهُ
وإِنْ تَنَلْ أَحدًا مِنا مَنِيّتَهُ فما الذي بقضاءِ اللهِ يَصنَعُهُ ؟
كان ابنُ زُريق مُقِلاً في قصائده , فلم يُعرَف له غير هذه القصيدةِ اليتيمة , والتي سُميتْ بالفِراقيّة ,
لِما خلَّفتْهُ مِن أَلم الفِراق , والشوقِ للقاءِ الحبيب بعدَ رحلةٍ طال فيها الانتظار ….
ستظلّ قصيدة ابن زُريق خالدةً في ذاكرة المُحبين وعاشقي السفر والترحال , لما حملته من تجربةٍ ثريةٍ
بالمغامرة والطموح , والحبّ والوفاء لبدره الذي يسكن حيّ الكرخ في بغداد .
انتقل ابن زُريق إِلى جوار ربه في الأندلس عام أَربعمئةٍ وعشرين للهجرة ( 1029م ) حزنًا وكَمَدًا , إِثر مغامرةٍ حافلةٍ بالمتاعب والإِحباطات قد أَودتْ بحياته .
ترك ابنُ زُريق لمكتباتنا الأَدبية إِرثًا ثقافيًا في قصيدته اليتيمة ( لا تَعذليهِ ) , تعدّدت فيها الموضوعاتُ المُترَعةُ
بالشكوى والندمِ والإِحباطِ تارةً , والغزلِ والشوقِ والحنينِ تارةً أُخرى . إِنّ العواطفَ والمشاعرَ الصادقة للشاعر في أَبيات قصيدته , جعلتْنا نعيشُ معه رحلته رغم ما فيها من متاعب السَّفر, وما تخلّلها من حُزنٍ وفشلٍ وكثير إحباطات .
لقد كُنا مع ابن زُريق وهو يُودّع زوجته بالدّموع :
وكم تشتّتَ بي يوم الرّحيل ضُحىً وأَدمعي مُستَهلّاتٌ وأَدمُعُهُ
وعِشنا معه وهو يتوسّل لها بالتخفيف من لومه , لما يُسبّبه له ذلك من تعبٍ وعَناء :
فاستعملي الرّفقَ في تأْنيبهِ بدلًا مِنْ عَذلهِ فهو مُضنى القلبِ مُوجَعُهُ
رحم اللهُ شاعرَنا ابن زُريق البغداديّ , فقد كان والطموح توأَمان لا يفترقان.
( يوسف فايز ابداح . إِربد 14 /11/ 2022م )
Leave A Comment