معركة اليرموك

بقلم : يوسف ابداح 

على قَمم جبال ( سَحَم ) الشُّعلة , المُطلّة على الأرض التي جُبلتْ  بدماءِ الشهداءِ الزكيّة في معركة اليرموك , والمواجهة لأرض الجولان الأسيرة , والمُشرفة على أرض فلسطين السليبة ,

وقفْتُ أشمّ عَبَق الماضي التليد في هذه الأرض الطيبة المُخضّبة بدماء الشهداءِ الأبرار , فأنا وَلِهٌ

بتاريخي العربي الإسلامي , المُفعم بالعزّة والانتصارات العظيمة   .

وقفْتُ كالصقر مزهوّاً  بفضائه وعزته وكبريائه , فخوراً بتحليقه  فوق القمم الشاهقة  , والتي لا يرضى  عن التحليق فوقها بديلاً  …

هنا …  , وعلى السهل الذي تحتضنه جبال الأردن الأبيّة , ومرتفعات سوريا الأمويّة  , كانت معركة اليرموك  .

معركة عشعش حبها في قلبي , وجرى هنيئاً مريئاً في عروقي , ونقلتُ هذا الحبّ العظيم لأبنائي وأحفادي , أغرس في نفوسهم حبّ التضحية والفداء  , وأعود بهم إلى تاريخهم العربي المجيد , والانتصارات العظيمة  التي سطّرها الأجدادُ بدمائهم الطاهرة , وبذلوا من أجلها أرواحهم الغالية  .

( رجالُ صدقوا ما عاهدوا الله عليه, فمنهم من قضى نَحْبه ,ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً )

ما أجملها من ذكريات تنقلني إلى عصر الخلفاءِ الراشدين الزاهر ! , وإلى الخليفة الفاروق عمر

بن الخطاب , الذي رأى إكمال مسيرة أبي بكر الصدّيق في توسّع الخلافة الإسلامية في عُمقِ  أكبر ببلاد الشام  !

استُدعِي خالد بن الوليد من العراق , ليقود جيش المسلمين في مواجهة جيش الروم وأعوانهم من

المرتزقة العرب الغساسنة .

وتعود بي الذاكرة إلى السنة الخامسة عشرة للهجرة ( 15 أغسطس آب 636م ) , ففي فجر ذلك اليوم , أَعدّ الطرفان عُددهم وخططهم الحربية لبدءِ المعركة الفاصلة بينهما .

مئتان وأَربعون أَلف محارب من الروم , يقودهم الملوك والأمراء من الغرب والفِرنجة والروس

والأرمن ومن تعاون معهم من الغساسنة ,تبرق سيوفهم حقداً على العرب المسلمين ,ويتربصون

بهم الدوائر في كل موقعة لهم وجولة  .

هرقل الروم يهدُرُ بوعيده !

( ماهان ) الأرمني , وقسطنطين ( ابن هرقل ) , وقناطير الروسي , وغريجوري الأوروبي , وتيودور ( شقيق القيصر ) , ودريجان الأوروبي , يردّدون معه الوعيد والتهديد , وينتظرون

ساعة اللقاء مع العرب المسلمين في جيش قارب ستة وأَربعين أَلف محارب , فيهم أَلف صحابيّ

ومئة بدريّ , يقودهم خالد بن الوليد , ومعه كواكب مضيئة  من المسلمين , يزيّنها أبو عبيدة عامر بن الجرّاح , ومعاذ بن جبل , وشرحبيل بن حسنة , وعمرو بن العاص , ويزيد بن أَبي سفيان , وقيس بن جبيرة  , وضرار بن الأزور, وأخته خولة بنت الأزور, التي حظيت بالشهادة

بضربة سهم من عدوّها .

نظّم خالد بن الوليد جيشه في ستة وثلاثين كتيبة مشاة , وأَربع كتائب للخيّالة , مُوجّهاً وجهته للغرب , بينما كان الروم متجهين جهة الشرق .

اصطفّ الجيش الإسلامي على طول اثني عشر كيلاً مواجهاً الغرب , وجناحه الأيسر إلى جهة

نهر اليرموك , وعلى مسافة ميل واحد من بداية الأودية وادي العلن , وجناحه الأيمن على جهة طريق الجابية , إلى الشمال بمحاذاة  مرتفعات تلّ الجمعة  .

تولّى أَبوعبيدة قيادة مركز الجيش ( الوسط الأيسر ) , وتولّى شرحبيل بن حسنة قيادة الوسط الأيمن .

الجناح الأيسر تحت لواء يزيد بن أبي سفيان . الجناح الأيمن تحت قيادة عمرو بن العاص , أُسنِد المركز وكلا الجناحين بفرق الخيالة , لتُستخدم كقوة احتياطية أثناء الهجوم المعاكس في حالة التراجع تحت ضغط الجيش البيزنطي , وخلف المركز تقع الخيّالة المتحركة  تحت القيادة الشخصية  لخالد بن الوليد , كما عُهد لضرار بن الأزور قيادة حركة الخيّالة المتحركة في حال انشغال خالد بن الوليد  في قيادة الجيش الأساسي .

كان خالد بن الوليد  يستخدم قوّته الاحتياطية الراكبة في استخدامات حاسمة  وحرِجة , حيث كان يرسل عدة جوّالة لإبقاءِ البيزنطيين تحت المراقبة قبل أن تبدأ المعركة .

اتجه القائد الروماني ( جورج ) وهو قائد الفرقة الوسط في جيش الروم إلى المسلمين ودخل الإسلام , وقد استشهد في اليوم الأول  .

بدأَت المعركة في اليوم الخامس عشر من آب 636 م في كرٍّ وفرٍّ بين الطرفين , في جولات كان يُراد بها جسّ النبض , ومعرفة مواطن الضعف والخلل بين الصفوف المتقابلة  .

استمرت المعركة ستة أَيام , كانت خسائر الروم في أَربعة الأيام الأولى أَكثر من خسائر المسلمين , وقُتل القائد ( دريجان ) في اليوم الثالث من المعركة  .

لقد رفض خالد بن الوليد هدنة عَرَضها الروم بقوله المشهور لرسول الروم :

( نحن مستعجلون لإنهاءِ عملنا هذا .)

قاتلتْ نساءُ المسلمين من خلف الجيش بشجاعة  , وقتلن عدداً كثيراً من الروم , واستشهدت خولة بنت الأزور , وكُنّ يضربْن من انهزم من المسلمين بالحجارة ويزجرنهم قائلات :

( أَين تذهبون وتدعوننا  للعلوج ؟ )

وعدئذ يرجع المنهزمون حتى نُقل عنهم قولهم :

( مواجهة الروم ولا مواجهة نسائنا ! ) , فيكرّون على العدوّ لشنّ الهجوم المُعاكس .

تقهقَر الروم في اليوم السادس , ورجعوا إلى الوراء , وفي عنق النهر في منطقة ضيّقة , اختلّت صفوفهم وتنظيماتهم , وذلك بسبب هزيمة الفرقة الروسية  التي يقودها  ( ماهان ) .

انتهت المعركة باستشهاد أربعة آلاف مقاتل من المسلمين , ومقتل ما يزيد عن ثمانين ألفاً من الروم  .

وفي اليوم السادس , لاحق خالد بن الوليد الروم المهزومين , وقتل أَحدُ جنوده ( ماهان ), وصاح قائلاً : ( قتلتُ ماهان وربّ الكعبة  !  ,  قتلْتُ ماهان وربّ الكعبة !  )

أما هرقل , فقد هرب إلى أنطاكيا , ومن هناك , غادرها ليلاٌ إلى القسطنطينيّة حيث قال :

الوداع ..  !

وداعاً أخيراً يا سوريا ..

يا محافظتي الجميلة …. !

أنتِ دُرّة العدوّ الكافر الآن  ..

فلْتنعمي بالسلام  يا سوريا   !

أَيّ أَرض جميلة ستكونين لهم !

وهكذا , تحقّق النصر المؤزّر للمسلمين , وتحقّق وعْدُ الله لعباده المؤمنين :

( إنْ تنصروا اللهَ ينصركم ويُثبّت أَقدامكم  )

أرض اليرموك …

يا أرضي الثريّة  !

أُقبّل ترابَك ..وأُمرّغ  خدّيَّ  بثراك الذي وطئتْهُ خيلُ المسلمين , وداستْهُ أَقدامُ البرَرَة الماجدين .

أُكحّلُ عيوني بثراك أَرضَ اليرموك …

فلي فيك ماضٍ مجيد , وحاضرٌ مشرق , وأملٌ  بالله جِدُّ عظيم  ….