يوميّات معلم

بقلم :  يوسف ابداح .

كان زيد طالباً دَمِث الخلق , أنيق الملبس  , مُرهف الحسّ , لا يعلو صوته على من يُحدّثه  , حتى حقيبة كتبه السوداء التي اختارها , كانت توحي  بسلامة ذوقه في حُسن الاختيار .

احتلّ زيد مكانة عالية عندي , فما كان يوماً مدخّناً , وندر غيابه عن مدرسته أو تأخر عن درسه وأداءِ واجباته , بل كان مشاركاً فاعلاً في التمارين الصباحية مع أقرانه .

… دخلتُ الفصل وأنا  أحمل سجلاتي وأقلامي , والنشاط يملأ  جوانحي , فأنا سأقوم اليوم بشرح درس الحال في النحو  .

لقد أعددْتُ الدرس إعداداً جيداً , ودعمته بالتطبيقات  والوسائل التوضيحية .

بدأتُ  بمتابعة  الحضور في سجل المتابعة  الذي أحمله , فبعد قليل سيزورني المرشد الطلابي , ليتابع بدوره الغائبين والحاضرين في سجلاته اليومية  .

قال الطلاب :  لا غائب اليوم في فصلنا  ..

حمدتُ الله , وشكرتهم لعدم التأخر  عن حضور درس الحال الذي سأشرحه .

بدأت أعرض على شاشة  العرض لوحاتي , وأوضح  مفرداتي التي اخترتها بعناية  وإتقان لتوضيح القاعدة .

استرعى  زيد انتباهي , فقد كان مشغولاً في الكتابة حريصاً عليها …

قلت : انتبه يا زيد  .

انتبه بُنيّ إلى شرح الدرس أولاً ,  وأجّل الكتابة .

امتثل زيد قليلاً ثم عاود الكتابة .

عجبت منه هذا الاهتمام ,  وطلبت منه إطلاعي على كراسته  التي أخفاها تحت كتابه , ولكنني كنت أكثر منه إلحاحاً لقراءة ما كتبه  .

وهنا كانت المفاجأة ….  !

لم يكتب زيد شيئاً من درس الحال  .

لقد كان رسّاماً ماهراً   .

رسم عينين واسعتين , لفتاة خلتها جِدّ جميلة , وحسبتُ أن شاعرنا جرير هي التي عناها بقوله :

عيون المها بين الرّصافة والجسر            جلبْن الهوى من حيث أدري ولا أدري

ورسم تحت العينين دموعاً  , أبى إلا أن يكتب عليها وبين قوسين  ( دموع ) !

بينما رسم على الجانب الآخر قلباً مزّقته السهام  من كلّ جانب وهي تخترقه , فينزف القلب الجريح دماً , ويكتب عليه وبين قوسين (  دم ) , وكأن الناظر لا يفرّق بين الدم وعصير التوت ….

وقفت قليلاً وأنا أنظر إلى اللوحتين , والطلاب يرقبون ما يجري بشغف عظيم , ودفع الفضول بعضهم  إلى الاستعجال في السؤال .

قلت : ما هذا يا زيد  ؟

قال :  إنها الدموع يا أستاذ  .

قلت : وما تلك السهام يا بُنيّ  ؟

قال بأسلوب الفَرِح المرِح  : تبّاً لها من سهام يا أستاذ , أما ترى ما فعلتْه في قلبي  ؟

قلت :  ولمن تلك العيون إذن  ؟

قال :  أتسمح لي أن أقول بصراحة  ؟

قلت :  ما سألتك إلا لأسمع منك  .

قال :  العيون عيون حبيبتي  , والقلب قلبي .

قلت :  ولِمَ الدموع إذن  , إنّ الرجال لا يبكون   ؟

قال بلهجة الواثق من نفسه :  ومن قال أن الرجال لا يبكون ؟

ألم يبك الرجال يوم رحيل المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه  ؟

ألم يبك المسلمون يوم سقوط بغداد عل يد التتار  ؟

ألم يبك العرب كلهم يوم أفَلَ نجمهم لسقوط غرناطة وضياع الأندلس  ؟

لقد بكى الكثيرون وأبكَوْا مَن حولهم  .

ظننته يعني في عبارته الأخيرة شيخاً جليلاً وُهب جمال الصوت ,  ورتّل القرآن ترتيلاً ,

فبكى وأبكى  ,

ولكنه أضاف قائلاً :

أما قال امرؤ القيس :

قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ                  بِسِقط الّلوى بين الدَّخول فَحوْمَلِ

قلت : كفانا يا ولدي بكاءً وعويلاً , فشتّان بين دموع المواقف ودموع العواطف !

لقد كان رحيلاً  تقطّعتْ له نِياط القلب ,  وهزيمة وهَنَتْ لها العزائم   .

لا تشغلنا بالدموع ,  فدرس الحال ينتظرنا .

قال :  أصلح الله الحال يا أستاذ   ..

قلت :  اصدقني القول يا زيد .  أكانت الحصة مُمّلة إلى هذا المدى فتتركنا وتنصرف عنا

إلى عيون  ظبيتك ونزيف قلبك  ؟

قال : والله  سأصدقك القول ,  وأرجو أن يتسّع قلبك الكبيرالذي عهدناه لسماع ما أقول  .

قلت :  قُل يا بُنيّ ما شئت  , وسأصغي إليك .

قال :  والله يا أستاذ ,  ما عرفت الحبّ وما جربته  .

قلت :  لا تقسم بالله ,  فأنا أصدقك , ولكن ما الرسومات التي رأيتها اليوم على كراستك ؟

قال :  إنه الخيال الواسع ,  وإنها المواصفات والمقاييس لشريكة حياة مجهولة   .

قلت :  أشكرك يا ولدي على ثقتك  وصراحتك , واعلم أن الحبّ لا يكون للحِسان الجميلات

فحسب ,  فقد يكون الحبّ لله ثم لرسوله  وطاعتهما !

وقد يكون للوالدين  في إكرامهما والإحسان إليهما ,  كما يكون في حبّ الوطن , والتفاني في

خدمته ورفعته    .

أجّل الخيال يا ولدي …    أجّله , فالطريق طويل , والزاد قليل  ..

عُد يا بُنيّ إلى الحقيقة والواقع ,  فالحقيقة أعظم من الخيال , واعلم أنّ السراب لا يروي الظمآن ولا يعطيه ماءً , فالطموحات الكبيرة ,  تُحقّقُ بالإرادة القوية والعزيمة الصادقة .

والآن  ….. دعْنا بُنيّ نعود لدرس الحال ,  أصلح الله حالنا وحال المسلمين .