فارسة من الصحراء
بقلم : يوسف ابداح .
…….. بدويّةُ الملامح , تلبسُ جِلْباباً أصفر , وتعْقِلُ رأْسها بِمِنْديلٍ هُدّبتْ أَطرافُهُ بِصُنعِ اليدَيْن ,
سمراءُ نحيفةُ الجِسم , قَسَماتُها تدلُّ على جِدِّيَتِها , فقدت الابتسامةَ منذُ زَمَنٍ بَعيد .
تَقِفُ منذُ أيامٍ على رصيفِ الطريقِ تَبيعُ الخُبْز , حيثُ يكْثُرُ الراجِلونَ في هذا المكان , بينمـــا يُصاحبُها ابنُها الذي يُقارِبُ السادسةَ من عُمره , بريءٌ براءَة الدُّميةِ التي تُدْخِلُ السرورَ إلى نفسِ صاحِبِها ولا تَعْرِفُه .
….. أمرُّ بها كُلَّ صَباحٍ في طريقي إلى عَمَلي , والمَشْهَدُ يَتَكَرَّر ….
الجِلْبابُ الأصفرُ كما هُـوَ .
العِقالُ على الرأْسِ لم يَتَغَيَّر .
أَخْتَلِسُ نظرةً إليها وأُواصِلُ دَرْبي .
الفُضولُ يدْفَعُني فَأَتساءَل :
مَنْ تكونُ هذهِ البدويّةُ السمراء ؟ وَمِنْ أَينَ جاءَتْ ؟
إنَّها غريبةُ الشكلِ والمَضمون !
إنَّ جِدِّيَتَها لا تُشجِّعُ على طَرْحِ السُؤال , وأنا أَخافُ مِنْ حِدَّةِ الرّد , التزمتُ الحَذَرَ حتى لا أَكـونُ
سَخيفاً في التطَفّلِ فاَثرْتُ الصّمت .
تَقَدّمْتُ منها ذاتَ يومٍ واشتريتُ ربطةَ خُبْز .
أَنِسَتْ إليّ واطمأنّتْ .
قُلتُ لها : كُنْتِ بالنسبةِ لي كُرةً لا أَجِدُ له مَدْخَلاً , أَنتِ إنسانةٌ غَريبة !
قالتْ : ما الذي تَعْنيه ؟
ـ إنّكِ تحتاجينَ إلى قارىءٍ ماهرٍ يقرؤُكِ .
ـ وأنا مُستمِعَةٌ جيِّدةٌ أُجيدُ فَنَّ الاستماع .
ـ سَأَقرأُ لكِ ما بِداخِلي .
ـ ولكنَّكَ لنْ تُجيدَ القِراءة .
ـ لماذا ؟
ـ لأنَّكَ سَتُفاجأُ بالإجابة .
ـ امنحيني فُرْصةَ الاختبارِ في القِراءةِ أَولاً .
ـ اقرأْ …… سَأَسمَعُك .
ـ أَنتِ بدويَّةٌ قادمةٌ من الصحراء .
ـ حقّاً … أَنا كذلك , أَكْمِلْ .
ـ ما أَعظمَ الحِمْلَ الذي تَحْمِلينَهُ على كاهِلِك !
ـ نَعَمْ : إِنّهُ جِدُّ ثقيل .
ـ ولكنّكِ ظَبيةٌ لا تستطيعُ حمْلَ هذا العِبءْ !
ـ بَلْ لَبُؤَةٌ وَسْطَ الذِئاب .
قُلْتُ لها : الآنَ بدأْتُ أَشْعُرُ بالخوف , فَهلْ نحْنُ في غابة ؟
ـ لا عليك … وَاصِل القِراءة , وإِنْ أَخطَأْتَ سَأُصَحِّحُ لك , واعلمْ بِأَنّكَ لن تكونَ سعيداً …. ,
فما بقِيَ في الحُنْجُرةِ إلا الحشْرَجات .
ـ هالَني هذا التعبيرُ الذي كُنْتُ أنتظره وقُلت :
أَيتُها المرأَة : أَنْتِ بدويَّةٌ قادمةٌ من الصّحراء . أَنْتِ كُنْتِ ترْعِينَ الغَنم .
ـ حَقّـاً : لقدْ نَجَحْتَ في القِراءة , ثُمَّ أَرْدَفَتْ :
كُنْتُ أَرعى غنمَ أَهلي في أرضِ قومي , أَنْعُمُ بالحريَّة , أَمُدُّ نظري في الصحراءِ التي علَّمَتْني الثقةَ
بالنفسِ وحُبّ الحُرَّية , أَحمِلُ عَصايَ التي لا تُفارقني لَحْظة.
قاطعْتُها وقُلْت:
لِمَ تَحْمِلينَ العصا وَأَنْتِ بينَ قَومِكِ ؟
قالتْ : ( هِيَ عصايَ أَتَوَكَّأُ عليها , وَأَهُشُّ بِها على غَنَمي , ولي فيها مَاَرِبُ أُخْرى ) .
واصَلَتْ حَديثَها , وأَنا أُصغي إليها كَتِلميذٍ شَدَّهُ المُعلِّمُ إليهِ بِحُسْنِ مَوْضوعِهِ وجمالِ أُسلوبِه .
لي مِن الإخوانِ خمسةٌ , هُمْ فرسانٌ في القَبيلة , لا تُفارقُ بَنادِقُهُمْ أَكْتافَهُم والخناجرُ جُنُوبهُـم .
إنَّهم يُلاقونَ الشرَّ بِصُدوُرِهِم وَسِلاحِهِم , فَهُم رجالٌ صناديدُ في كُلِّ مُواجَهَةٍ وَلِقاء ,وَلِسانُ حالِهم يقول: وَنشْرَبُ إنْ وَرَدْنا الماءَ صَفْواً : وَيشْرَبُ غيرُنا كَدَراً وَطِينـا
اعتَدْنا الرَّحيلَ دائماً ……
قاطَعْتُها وقُلْتُ :
ولكنَّ رَحيلَكِ اليومَ غيرُ رَحِيلِهِم , إنَّه ليس للبحثِ عن الماءِ والكَلأ , إنَّكِ تَرحلينَ إلى المَجْهُول ,
وتُسافرين في صحراءَ لا تُدْرَى مَعالِمُها وَدُروبُها .
قالتْ : ليت طريقي في الصحراء , فأَنا ابنتُها التي تُجيدُ مَعْرفَةَ طُرُقَاتِها , وَنَحِنُّ إلى رِمالِهـا
وهوائِها , ولكنني مُسافرةٌ في طريقٍ لا أعلمُ نِهايَتَه !
كانتْ تُحَدِّثُني وهي تُطيلُ النظرَ في اتّجاهٍ واحِدٍ وكَأَنَّها تَتَحَدَّثُ مع شخصٍ اَخَر .
ظَنَنْتُ أنها ما كانتْ لِتُحْرِجَني وهي ترى علاماتِ تَأَثُّري لِسَماعِ قِصَّةِ رَحِيلِها .
قُلتُ لها : أَنتِ مَنْفِيّةٌ من الصحراء . إنَّ الصحراءَ واسعٌ مداها , وهي تتَّسِعُ لِكُلِّ أَبناءِ القبيلة ,
فَلِماذا ترْحَلِين ؟
تَنَهَّدَتْ , وقدْ غطّتْ بِمِنْديلِها أَطرافَ شَعْرِها وقالت :
كُنْتُ أَرعى الغنم , وأَرِدُ غَديرَ الماء , وكُنتُ فتاةً راشِدَة .
قابلتُهُ هُناك وافترقْنـــــا .
ثمَّ قابلتُهُ وافترَقْنـــــــا .
التقينا ثالثةً واتفقْنــــــا .
تقدَّمَ لي فأَعْجَزَهُ المَهْر . ثارتْ ثائرةُ إخواني وعشيرتي ………. فَمِن العارِ عِندهم أَنْ تتزوَّجَ
الفتاةُ مِنْ غيرِ أَبناءِ القبيلة !
تَعَلّقْتُ به وتَعَلَّقَ بــي .
أَنَحْتَـكِمُ إلى قانونِ السَّماءِ أَمْ إلى قانونِ الأرض ؟
قانونُ الأرضِ يُشْهِرُ السِّلاحَ في وجهي , ويَتَوَعَّدُني بالوَيْـلِ والثُبُور, فليس لي من مُعينٍ إلا الله .
ارتبطْنا أمامَ الله …. وضاقتْ علينا الأرضُ بِما رَحُبَتْ .
سَكَنّا في الأقبيةِ والكُهـوف .
كُنّا نجـــوعُ وَنشْبـَـع .
نَمْرضُ ونشْفــــــى .
وتضيقُ بنا الأرضُ وكأنّا نَدفعُ لِوحْدِنا الضريبة!
رُزِقْنا بِمَولودٍ ذَكَرٍ أَعْطيناهُ اسم القبيلة .
كان زوجي رجلاً نبيلاً , أَراد أَنْ يَتحمّلَ وحْدهُ مسؤوليةَ ضيقِ العيشِ الذي نُكابِدُه فأَقول له :
هَوّنْ عليك … فأَنا شريكةٌ معَكَ في ذلك , إنَّ معَ العُسرِ يُسْراً .
…… مَرِضَ زوجي مَرَضاً عَزَّ منهُ الشِّفاء , قاومَ الداءَ بِإيمانٍ وصبْرٍ وجَلَدٍ حتى غلَبَــهُ
طُولُ السَّقَم … وَقَـبْل أَنْ يلفظَ أَنفاسَه الأخيرةَ , أوصاني بِولدنا خيراً وقال :
علّميهِ السِّباحةَ والرمايةَ وركوبَ الخيل , احكي لهُ القصةَ وخُذيهِ إلى غديرِ الماء .
وأَضافتْ قائلةً :
لقد غَلَبني قانونُ الأرض , وأَحاطني اليأْسُ مِن كلّ جانب .
عَانيتُ الخوفَ والجُوع ….. فقلت : الآنَ حان للظبيةِ أَنْ تُصبحَ لَبُؤة .
كمْ مِن الذئابِ الضاريةِ لاحَقَت الشاةَ الجريحةَ التي فقَدَتْ راعيها !
لمْ أَكنْ فريسةً لواحدٍ منها , وما فَرّطْتُ في شيء , لقد صارعْتُ طويلاً ـ وما زلت ـ من أجلِ
البقاءِ والوفاء , وأَنا اليوم عَـزْلاء !
قُلتُ : واصِلي المُقاومةَ مِنْ أَجلِ ولدك .
قالتْ : سَأُقاوِم . سَأَصِلُ أَهدافي التي حدَّدها زوجي , إنَّ ولدي يشتدُّ ساعده ويكبُر , ساَخذُهُ إلى غدير الماءِ وأَسقيهِ من مائه , وسأَحكي لهُ القصَّـة .
وهناك …. سأَصرخُ بِأَعلى صوتي :
يا أَهلــــــــــــــــي :
يا عَشيــــــــــــــرتي :
يا فُرسانَ القبيلــــــــــة :
أَنا اليوم هُنا , أَنا عِـند غدير الماء , حيثُ العِفَّة والوفاء .
هيّـا بِسلاحِكُم .
هيـا بِخَناجِركُم .
اقطعوا لحماً خشبياً يشمُّ أَحاسيسَ الظُلْمِ والأَلَم .
أَكْمِلوا ذَبْحَ الشاةِ , خُذوا منها اَخرَ قطْرَةِ دَم , فَرُوحي تَهْفُـو اليومَ إلى مَوعِدٍ لا يَنتهي فوقَ غَديرِ الماء .
أَما أَنتِ يا صَحْرائي:
فقد كُنْتِ مَلاذي ورجائي , امسحي على جُروحي , فَرِياحُكِ خَيْـرُ مَنْ يَمسَحُ الجُروح .
فيك شَممْتُ عَبَقَ الُحُرَّية , وفيكِ سَتُدْفَنُ الشاةُ الذبيح .
اقبليني ـ بِحقِّ اللهِ عليكِ ـ نقيَّةً مِثْلَ حبّاتِ المطر .
وأَنتَ يا ولدي :
سَجِّلْ في ذاكرتِك واكتُبْ :
هُنا وُلِدَ الحُبُّ والوَفـاء .
وهنا ضَاعت الحقوقُ وقُيّدت الحُريّة .
عُدْتُ بعدَ أَيامٍ غِبتُـها إلى الرصيفِ حيث كانتْ ابنةُ الباديةِ فلم أَجِدْها .
سَأَلتُ عنها ….. فقالوا : لقد رحَلتْ إلى العالَمِ الآخر , رحَلَتْ إلى جِوارِ ربِّها .
جَلسْتُ لِوحدي في مكانِ لقائي الأول بها وأَطْرَقْتُ طويلاً .
قُلت : هُنا سأُقيمُ لها نصباً تذكارياً , وسأنقشُ عليهِ بِخَطِّ يَدي :
هُنـا ناضلَتْ فارسةُ الصحراءِ مِنْ أَجْل حُقوقِ المرأَة .
رائعه جدا ، الله يعطيك العافيه
رااااااائع