قراءة لقصة :   (خربشات أدبية ) للروائي  توفيق جاد  .  

بقلم  يوسف ابداح

لم يكن الروائي توفيق أحمد جاد مُجانباً الصواب , وهو يكتب روايته ( الغداء الأخير ) , في وقت تزاحمت فيه الأحداث السياسية والحرب والنزوح عن أرض عشقها , وعاش مع أترابه

فيها , فقد كانت نورشمس موطن ميلاده , وكانت معشوقته التي ما فارق بصره النظر إليها وهو يحطّ الوهاد وينزل التلال بعد أن احتلها العدو الإسرائيلي عام 1967م , راسماً صورةً لمعاناة الكثيرين في أشدّ حالات الكرب والضيق , حيث كانت الرواية حافلة بالعديد من المواقف الإنسانية والوطنية   , ومحاولات العدو النيْل من روحهم المعنوية , مراعياً الثوابت الفنية والجمالية للقصة , وقضايا الدلالة ومقاصدها القريبة والبعيدة , وارتباطاتها بالحِبكة الفنية الجماليّة , والمقدمات والنهايات , والسرد والشخصيات , دون أن يغفل عناصر القصة الرئيسة.

لقد مال الكاتب في رواية ( الغداء الأخير ) إلى اختيار طريقة الإخبار في إبراز ما يريده من أفكار في عالم انقلبت فيه الموازين , وانعكست فيه القِيم والمفاهيم , وكأن الإشارة المرورية قد تعطّلت , فأضحت الغاية معها تُبرّرالوسيلة , وبات القويّ يحصل على ما يريد من حقوق الآخرين , وأصبحت حقوق الآخرين مُؤجلة وغيرُ مُعترف بها في كثير من الأحيان  .

لقد احتلّ الزمان والمكان أهمية خاصة عند الكاتب , فلم ينس تاريخ نوشمس التي احتلها الإنجليز عام 1919م , وأنشؤا سجناً على أرضها , ثم اختيارها ملاذاً للفارّين من مدنهم وقراهم عام 1948م , ذاكراً العديد من مدن وقرى المنطقة ، طولكرم ,عنبتا , شويكة , ذنّابة , بلعا , نابلس ,والتي أحاطت بنورشمس إحاطة السّوار بالمعصم .

لقد أجاد الكاتب وهو يروي حديث الناس , وسبر داخلهم وما يودّون فِعلَه , حتى قال والده وهو

يشهد تلك المُعاناة :

( والله ما يرد راسي إلا داري , هي مِيتة واحدة , خلّينا نموت بدورنا أحسن من هالبهدلة , هيّا يا أولاد , قوموا وتحركوا للعودة إلى نورشمس ! ) , فتجلّى في قوله حبُّ الناس للدار والوطن ,

رغم المخاطر والمِحن  .

تعددت الشخصيات في رواية  ( الغداء الأخير ) , وكانت الشخصيات الرئيسة فيها مُجسدةً  لمعاني الصبر والحب والوفاء .

صالح , الشاب الطموح الذي عُيّن في إحدى الوزارات بعد وصوله عمان , وزواجه من ر شيدة

صديقه علي , والذي تزوج من نبيلة  …

الدكتور فالح , والذي عمل طبيباَ في مستشفى البشير  ….

كما كانت الشخصيات الثانوية فاعلة في إبراز الأحداث الرئيسة , ولم ينس الكاتب لحظة الزمن الواقعي لروايته , فقد أجرى قصته في إطار زمني مُحدّد ,    فتسلسلت الحوادث فيه تبعاً لوجودها الزمني من نقطة البداية إلى نقطة النهاية بترتيب منطقي ّ ’دون أن تترهّل الأحداث بمواقف جانبية لا جدوى منها ولا غناء فيها  ,وكذلك الزمن النفسي عند معاناة الشخصيات ومكابدتها للجوع والتعب , والخوف والبعد عن الوطن , وهذا مايُسمّى بالاستبطان أو المونولوج الداخلي , وهو الحديث مع النفس  .

قد يكون في المكان انشراح وبهجة , وقد يكون فيه صراع ومقاومة  , فقد كان الكاتب الأمريكي

( آرنست همنجواي ) في روايته الشهيرة ( الشيخ والبحر ) سبّاقاً لذلك , حيث بين صراع الإنسان مع البحر ,  تماماً كصراع البدوي مع الصحراء في وحشتها , وخطورة الحياة فيها .

حرص الكاتب على أسلوب التشويق في يداية روايته , ليشدّ القارىْ إلى مواصلة معرفة الأحداث , كما اهتمّ بالنهاية فيها , وصياغة الكلمات الأخيرة , لتكون ذاتَ صدى  في سمع القارىء , فهي آخر لقاء بينه وبين قرائه .

أجاد الروائي توفيق جاد في استعمال اللغة العربية الفصحى , واختيار المفردات السهلة , فلم نحتج معها للرجوع إلى القاموس ,  وإن استخدم في حواره بعض الألفاظ العامية أحياناً , فما ذلك إلا ليسهمَ في كون الحوار واقعياً , ملائماً لطبيعة الشخصية القصصية التي تنطق به  .

كانت الرواية حافلة بالعقد في ثناياها , والتي توّجها الكاتب بلحظات التنوير , التي مال بعضها

إلى المصادفة أحياناً ,  حيث تبدو المصادفة طبيعية , تسوّغها الأحداث القصصية  .

  لم تُعوز الروائي توفيق جاد الدّراية بعناصر الرواية والقصة القصيرة , وماإشارتي لروايته

( الغداء الأخير ) , وتناولي للعديد من تلك العناصر التي أبدع في إضاءاته عليها , إلا شاهد صدق على ذلك  .

كانت قصة  ( خربشات أدبية ), ثورة  أدبيةعلى ما تعارف عليه النقاد والقرّاء من الالتزام بثوابث المواصفات للقصة المتكاملة في عناصرها  , فمن غير المعتاد أن تعتمد القصة على أسلوب واحد في تصوير الأحداث , والقاص الناجح هو الذي يختار السياق القصصي المطلوب

وشكله الفني , دون السماح لشخصياته أن تطغى إحداها على الأخرى  .

إن الروائي توفيق جاد , لا يعيش في برج عاجيّ , بل يعيش مشكلات عصره ومحيطه , فهو عند ذكره للتاريخ في قصصه , إنما يوظف ذلك لخدمة حاضره , والاهتمام بقضايا واقعه  .

إذا كنا ننادي بالحرية للإنسان , فمن الظلم أن ننكر ذلك على الروائي توفيق جاد , فهو يختار

الأسلوب الذي يراه مناسباً لإيصال أفكاره  وتضمينه معانيه , كما له الحق في اختيار البناء الفني الذي يراه في قصته ( خربشات أدبية ) , فقد كتبت الكاتبة الإنجليزبة ( أجاثا كريستا ) ,

والتي تُعدّ أعظم كاتبة في الكتابات البوليسية والجرائم , كتبت العديد من الروايات الرومانسية

أيضاً  .

لم تعد القصة القصيرة عند الروائي توفيق جاد عبارة عن سرد حكائي نثري أقصر من الرواية

تهدف إلى تقديم حدثٍ فريد مقيد بفترة زمنية قصيرة  , ومكان محدود , وشخصيات قليلة تؤدي

ذلك الحدَث , بل أصبحت عنده فكرة هامّة ولازمة  , يحرص على إيصالها للشباب والقرّاء ,

مستفيداً من تجاربه الحياتية , وما عنده من حكمة وبُعد نظر , في وقت  شًغف فيه الشباب بالتقنية الحديثة ووسائل الاتصال الالكترونية , فكانت الحاجة مُلحّة عنده  لإيصال الكثيرمن الحِكم والمعاني الجميلة , والقِيم الفاضلة والأفكار , بكلمات قليلة وعبارات  موجزة تواكب

متطلبات العصر  .

لقد بَدَتْ  قصة ( خربشات أدبية ) ثريّة بالأبعاد الدينية والوطنية والاجتماعية , فقد قال موجِزاً :

اغترف بيديه ليشرب  …

من ماء النهر العذب .

ما أن وصلت كفّاه إلى فمه ,

حتى انساب الماء من بين أصابعه  ( المُعوجّة )

لم ينله سوى البلل .

إن كاتبنا يشير بذلك إلى قوله تعالى :

(  له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه , وما هو ببالغه ,   وما دعاء الكافرين إلا في ضلال )

وقوله :

( الانحناء لله قوة  .

وللعبد مذلّة  . )

إنها دعوة لطلب العزّة والحثّ عليها , والتنفير من الذلّ والهوان .

( ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين  )

فقد قال الشاعر الجاهليّ  عنترة :

لا تسقني كأس الحياة بذلّة         بل فاسقني بالعزّ كأس الحنظلِ

لم ينسَ الروائي توفيق , انتماءه لوطنه العربي الكبير , فنراه يقول :

لو أن وطننا العربيَّ بلا حدود  ,

لكان هناك شعب واحد فقط …

ثم قال :

كي تحيا الأوطان  ,

يجب أن تتخمَها جُثث الأبطال ..

فالتضحية بالأرواح حياة للأوطان ….

ورحم الله شاعرنا  عبدالرحيم محمود ( ابن عنبتا ) حين قال قبل استشهاده بسويعات :

سأحمل روحي على راحتي        وأُلقي بها في مهاوي الرّدى

فإما  حياةٌ تسرّ  الصديق    وإما ممات يغيظُ  العِدى

ونفسُ الشريف لها غايتان          ورود المنايا ونيل المُنى

وجسمٌ تجدّل في الصحصحان      تناوشهُ جارحات الفلا

فمنه نصيبٌ لطير السماءِ           ومنه نصيبٌ لِأُسْدِ الشّرى

أرى مصرعي دون حقي السليب  ودون بلادي هو المُبتغى

لَعمرُك هذا ممات الرجالِ          ومن رام موتاً شريفاً فَذا

ونالت القدس حظاً وافراً من اهتمام شعرائنا وأدبائنا العرب , فقد تناولها نزار قباني ومحمود درويش, وسميح القاسم , ونضال القاسم  , وعبدالرحيم جداية .

أما الروائي توفيق جاد فقد  قال :

تشتاق القلوب والعيون لرؤياها …

عاصمة  ترنو إليها الأبصار

إنها قدسُ فلسطين …

عاصمة فلسطين عربية أبديّة …

وقال :

ينقشع الظلام …

يسطع نورُ السماء ..

تظهر جميع الأشياء  .

نُميّز الأهل من الدخلاء  !

وهو يشير إلى الحقيقة القائلة : الذهب لا يصدأ  , والناس معادن .

لقد أدرك الكاتب أن الزجل الشعبي سِمةٌ من هوية الوطن , فجعل له نصيباً من اهتماماته فقال :

يا مسافر (  قلّي وين ؟ )

ناوي .. هجران وغياب وبُعد

ناوي بعد ما كنت للوصل

ناوي …. طيّرت العقل مني

والصّوابا   ….

إنّ العالم لا يعيش أزمةً سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية فحسب , بل يعيش العديد من الأزمات الأخلاقية والثقة بين أفراد المجتمع , ولم يرض كاتبنا  ( توفيق جاد) أن يعيش سجيناً قي داخله,

يعيش همومه الفردية , بل كان طليق الفكر , بعيدَ الرؤيا , حكيم المقصد , فما هو إلا لبِنة من لَبِنات مجتمعه ومحيطه , عظيم الانتماءِ لأمته ووطنه , يعيش فرحتَه إن كانتْ , ويُكفكفُ دموعَه إنْ هلَّتْ , فجاءت كلماته  في ( خربشات أدبية ) تُداعب الفكر والعقل والروح , لتقدّم لنا الصورة الصادقة , والنظرة الصائبة ’ والفكرة الرائعة , والكلمة الشفّافة , في أنقى لغة وأجملِ بيان .

لا نملك إلا أنْ ندعو للأخ الروائي توفيق جاد بالتوفيق   …