الأشباح
بقلم : يوسف ابداح
الهُدوءُ شامل , والظلامُ يبسطُ رداءَهُ الأسودَ على القريةِ الوادعة , بينما تتساقط حبّاتُ المطر على سنابل القمح فتعانقها بعد شوقٍ طال انتظاره, وأهل القرية الطيبون باتوا لله سائلين وللغيث راجين .
…… وينهضُ العم صابر والذي جاوز الثمانين من عمره , يتوكأ على عصاه , ويلفّ شالهُ العريض على وَسْطهِ , ليفتحَ بابَ غرفته المتواضعة رويداً رويداً كي لا يوقظ صريرُ الباب حفيدَه ( منصور ) الذي أكمل الثامنة من عمره قبـل أيام قليلة . كان طلق المُحيّا , مُنشرح الصدر , وهو يرى من خلال نافذته زخّات المطرِ تجود بسخاءٍ على هذه الأرض التي ترعْرَعَ فوق ثراها الطهور , شَرِب عَذْب مائها , وتنسّم عليل هوائها , فأعطاها زهرة شبابه , وبادلها حباً بحب , ووفاء بوفاء .
أغلق العم صابر الباب بنفس الطريقة التي فتحهُ بها , ونظر إلى حفيده , ثمّ طبع على جبينه قُبلة مُفْعمة بالحبّ والحنان لِيَخْلُدَ بعدها إلى فراشه حتى لا تفوته صلاة الفجر , لكنّ نُباحَ الكلابِ قطع النومَ عن عينيه .
رفع ستارة النافذة , فَدُهِشَ لمرأى أشباحٍ تتجه صوبَ القرية بِخُطىً كثيرةٍ وحثيثة , فقال الشيخ :
يا إلهي ! إنهم هُم !!
استيقظ منصور على صوت جدّه قائلاً : ومن هم يا جدّي ؟
قال الجَـد : لا عليك يا ولدي , عُدْ إلى فراشك .
منصور : ولكنني أسمع نباح الكلاب , إنّ أمراً ما قد حدث !
الجَـد : لن يحدث اليوم أكثر مما حدث بالأمس يا ولدي ! قالها الجدّ وهو يتنهّد بغصةٍ ومرارة .
منصور : إنّ قسمات وجهك لتعني أشياءَ كثيرة يا جدّي , حدّثني عنها , حدّثني …. أستحلِفُك بالله حدّثني !
الجَــد : لك عليّ ذلك . ولْيَكُنْ ذلك في وقتٍ اَخر , دعني أُتابعُ الأشباحَ المُتجهةَ نحونا .
منصور : الأشباح ! لقد سمعْتُ عنها كثيراً !!
قفز منصور صوبَ النافذة , فرأى رجالاً مُدجّجينَ بالسلاح , يدوسون الزرع ويخرّبونَ كُلّ ما مرّوا عليه .
لقد أصابته الدهشةُ وهو يرى أحدُهم يَبْـقُر بطن شاةٍ كانت تجترّ في عريشها .
صاح منصور وهو يقول : جدّاه ! لقد بقروا بطن الشاة ياجدي ! إنها تتلوّى ألماً .
الجَـد : اخفِضْ صوتك …. إنّهم يريدون أنْ يُجرّبوا حِرابهُم .
منصور : أبالشياهِ يُجرّبونها ؟
الجَـد : بلْ وبالناسِ إنْ وجدوا .
منصور : يا لهم مِنْ قَتَلةٍ سفاحين !!
ويتنهّدُ العم صابر ……. وهو يسترجِع في ذاكرته السنين العِجاف مع الأشباح ولا يستطيع اليوم تحريك ساكن .
منصور : ألمْ أقل لك يا جدي إنّ تعابير وجهِكَ باحتْ بالقليلِ وتودّ سردَ الكثير ؟
الجَـد : بلى , ولكن دع الأشباح تمُرّ .
منصور : ولكنها ليستْ أشباحاً ! إنّهم جزّارون !
هذا ما أخافه عليك منهم , اخفض صوتك , فسأحكي لك القصّة .
………. ومضت الأشباح , وانبلج الصبح على صيحات الأرامل والأيتام التي خلّفتها الأشبـاح دون رحمة أو مراعاةٍ لأدنى حقوق أو خلق .
نظر العم صابر إلى حفيده وقال : ألمْ أقل لك إنهم يُجرّبون حِرابهم ؟
عرف منصور الذي تتّقِدُ ذاكرتُه ذكاءً وعيناهُ حِدّة , عرف الحِكايةَ من إجابة جدّه , وقبل أن يتفوّهَ بكلمةٍ أضاف الجَدُّ قائلاً :
أما تريدُ معرفة القصة يا منصور ؟
منصور : إنها أصبحتْ قصصاً يا جدّي , فأيّ قصةٍ تعنيها ؟
الجَـد : قصّةُ استشهاد أبيك يا ولدي .
منصور : وهل استشهد أبي يا جَـدّي ؟ كيف؟ متى ؟ لقد قُلتَ إنهُ في رحلة !
الجَـد : نعم : إنه في رحلةٍ إلى الأبرار في الجنّة .
أجْهَشَ الجَدّ بالبكاء وقال : إنها الأشباحُ يا ولدي ……. إنها الأشباح !
منصور : ولكنني لن أبكي يا جَـدّاه . إنّ أبي مع الأبرار في الجنّة .
لقد علّمتْني هذه الأرض الطريق إلى الجنّة .
…….. وتنقضي الأيامُ والشهور … وذكريات الماضي لا تُفارق مُخيّـّلة منصور .
ويكبُرُ الحفيدُ …… وتكْبُـرُ معه الاَمالُ والثقةُ بالله ثمّ بحتمية النصرِ على هذه الأشباح ِ التي سمعـها أسطورةً وراَها حقيقةً , والتي أرّقتْ الآمنين الوادعين وأودت بحياة الكثيرين منهم .
إنّ الأشباحَ ما كانت لِيهدأَ لها بالٌ أو يقرّ لها خاطر , فكلّما نفّذتْ مَجْزَرةً فكّرتْ بِأُخرى . هذا طبعُــها وخُلُقُها .
لقد عاودت الكرّة مرّة أخرى , ولكنّ منصور كان لهم اليوم بالمِرصاد, فقد كان يكمن لهـم فوق شجرة
زيتون , يحيط نفسهُ بِسُترةٍ تقيهِ البرد القارص , ويلُـفُّ رأسَهُ بِكوفيّةٍ (غُطْرَةٍ ) زرقــاء ويدُه على الزناد ..
سمع أصوات الأشباحِ تتّجهُ نحوه , فأمطرهم بِوابلٍ من نيرانِ رشّاشه , يَحصـدُهُهم مِن كُلّ ناحيـة ,
وأخذتْ أشلاؤُهم تتراقصُ وما كُلّ رقصٍ يُطْرِبُ .
خرجت القريةُ نحو الأصوات , فرأوا جُثثَ الأشباحِ تتناثرُ هنا وهناك, الأشباح التي كانــت بالأمس
كالأسودِ الضارية, فأضحت الساعةَ ثعالب ترجو النجاة .
لقد كان منصور يلفظ أنفاسَه الأخيرة على شجرة الزيتون وهو يحتضن الغُصنَ والبندقيّة .
دُهِشَ الحاضرون عندما رأوا شِبْلاً يتقدّم نحو الشهيد فيضمّه ويقبّله , ويحتضِنُ منهُ البُنْدُقيّةَ ويختفــي
عن الأنظار .
ودّعت القريةُ ابن الأرضِ الوفيِّ لها , وحارس القرية الأمين عليها , ودّعَتْهُ بالزغاريد ,ومنذُ ذلك اليوم,
انتهى عَهْـدُ الأشباح .
دام العطاء والإبداع
ابدعت بوصف الصورة والتي بدأنا نتخيلها من خلال سردك
ادام الله عليك الصحة والعافية
اعتقد ان عهد الأشباح عاد مرة أخرى الله يجيرنا
أطيب التحيات
ربنا يوفقك دايما يا استاذنا الفاضل ابونزار حبيب الكل
قصة جميلة ومعبرة وما أخذ بالقوة لا يسترد الا بمثلها
ندعوا الله ان تستيقظ الأمم وتكرس قوتها ضد عدوها وليس ضد شعوبها
للاسف انهم نائمون ومن بعضهم ينتقمون ولعدوهم الأصلي تاركون
وبخيرات البلاد ينعمون وشعوبهم من فتاتهم يأكلون
صح لسانك وسلم قلمك بهذه الروائع الادبية
قصة رائعة ومعبرة… سلمت يمناك